كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



الطبقة الرابعة: ورثة الرسل وخلفاؤهم في أُممهم، وهم القائمون بما بعثوا به علمًا وعملًا ودعوة للخلق إلى الله، على طرقهم ومنهاجهم، ولهذا أفضل مراتب الخلق بعد الرسالة والنبوة وهى مرتبة الصديقية قرنهم الله في كتابه بالأنبياء فقال تعالى: {وَمَنْ يُطِع الله والرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحُسْنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} [النساء: 69]، فجعل درجة الصديقية معطوفة على درجة النبوة وهؤلاء هم الربانيون، وهم الراسخون في العلم، وهم الوسائط بين الرسول صلى الله عليه وسلم وأُمته، فهم خلفاؤه وأولياؤه وحزبه وخاصته وحملة دينه وهم المضمون لهم أنهم لا يزالون على الحق لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأْتى أمر الله وهم على ذلك، وقال الله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِندَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ} [الحديد: 19]، وقيل: إن الوقف على قوله تعالى: {هُمُ الصِّدِّيقُونَ} ثم يبتديءُ {وَالشُّهَدَاءُ عِندَ رَبِّهِمْ}، فيكون الكلام جملتين أخبر في إحداهما عن المؤمنين بالله ورسله أنهم هم الصديقون والإيمان التام يستلزم العلم والعمل والدعوة إلى الله بالتعليم والصبر عليه، وأخبر في الثانية أن الشهداء عند ربهم لهم أجرهم ونورهم، ومرتبة الصديقين فوق مرتبة الشهداءِ، ولهذا قدمهم عليهم في الآيتين، هنا وفى سورة النساء، وهكذا جاءَ ذكرهم مقدمًا على الشهداءِ في كلام النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: «اثبت أُحد فإنما عليك نبى وصديق وشهيد»، ولهذا كان نعت الصديقية وصفًا لأفضل الخلق بعد الأنبياء والمرسلين أبو بكر الصديق رضي الله عنه ولو كان بعد النبوة درجة أفضل من الصديقية لكانت نعتًا له رضى الله عنه، وقيل: إن الكلام كله جملة واحدة وأخبر عن المؤمنين بأنهم هم الصديقون والشهداءُ عند ربهم، وعلى هذا فالشهداء هم الذين يستشدهم الله على الناس يوم القيامة وهو قوله تعالى: {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [البقرة: 143]، وهم المؤمنون، فوصفهم بأنهم صديقون في الدنيا وشهداءُ على الناس يوم القيامة، ويكون الشهداء وصفًا لجملة المؤمنين الصديقين، وقيل: الشهداء هم الذين قتلوا في سبيل الله، وعلى هذا القول يترجح أن يكون الكلام جملتين ويكون قوله: {والشهداءُ} مبتدأ خبره ما بعده، لأنه ليس كل مؤمن صديق شهيدًا في سبيل الله.
ويرجحه أيضًا أنه لو كان الشهداء داخلًا في جملة الخبر عند المؤمنين لكان قوله تعالى: {لَهُم أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ} [الحديد: 19] داخلًا أيضًا في جملة الخبر عنهم ويكون قد أخبر عنهم بثلاثة أشياء: أحدها: أنهم هم الصديقون، والثانى: أنهم هم الشهداءُ، والثالث: أن لهم أجرهم ونورهم، وذلك يتضمن عطف الخبر الثانى على الأول، ثم ذكر الخبر الثالث مجردًا عن العطف، وهذا كما تقول: زيد كريم وعالم له مال والأحسن في هذا تناسب الأخبار بأن تجردها كلها من العطف أو تعطفها جميعًا فتقول: زيد كريم عالم له مال، أو كريم وعالم وله مال فتأمله.
ويرجحه أيضًا أن الكلام يصير جملًا مستقلة قد ذكر فيها أصناف خلقه السعداء وهم الصديقون والشهداء والصالحون وهم المذكورون في الآية وهم المتصدقون الذين أقرضوا الله قرضًا حسنًا، فهؤلا ثلاثة أصناف ثم ذكر الرسل في قوله تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ} [الحديد: 25]، فيتناول ذلك الأصناف الأربعة المذكورة في سورة النساء، فهؤلاء هم السعداء.
الطبقة الخامسة: أئمة العدل وولاته الذين تؤمن بهم السبل ويستقيم بهم العالم ويستنصر بهم الضعيف ويذل بهم الظالم ويأْمن بهم الخائف وتقام بهم الحدود ويدفع بهم الفساد ويأْمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقام بهم حكم الكتاب والسنة وتطفأُ بهم نيران البدع والضلالة، وهؤلاء الذين تنصب لهم المنابر من النور عن يمين الرحمن عز وجل يوم القيامة فيكونون عليها- والولاة الظلمة قد صهرهم حر الشمس وقد بلغ منهم العرق مبلغه وهم يحملون أثقال مظالمهم العظيمة على ظهورهم الضعيفة في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، ثم يرى سبيل أحدهم إما إلى الجنة وإما إلى النار.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: «المقسطون عند الله على منابر من نور يوم القيامة عن يمين الرحمن تبارك وتعالى وكلتا يديه يمين، الذي يعدلون في حكمهم وأهلم وما ولوا»، وعنه صلى الله عليه وسلم: «إن أحب الخلق إلى الله وأقربهم منه منزلة يوم القيامة إمام عادل، وإن أبغض الخلق إلى الله وأبعدهم منه منزلة يوم القيامة إمام جائر» أو كما قال.
وهم أحد السبعة الأصناف الذين يظلهم الله في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله، وكما كان الناس في ظل عدلهم في الدنيا كانوا في ظل عرش الرحمن يوم القيامة ظلًا بظل جزاءً وفاقًا، ولو لم يكن من فضلهم وشرفهم إلا أن أهل السموات والأرض والطير في الهواء يصلون عليهم ويستغفرون لهم ويدعون لهم، وولاة الظلم يلعنهم من بين السموات والأرض حتى الدواب والطير، كما أن معلم الناس الخير يصلى عليه الله وملائكته، وكاتم العلم والهدى الذي أنزله الله وحامل أهله على كتمانه يلعنه الله وملائكته ويلعنه اللاعنون، فيا لها من منقبة ومرتبة ما أجلها وأشرفها أن يكون الوالى والإمام على فراشه وغيره يعمل بالخير وتكتب الحسنات في صحائفه فهى متزايدة ما دام يعمل بعدله، ولساعة واحدة منه خير من عبادة أعوام من غيره، فأين هذا من صفه الغاش لرعيته الظالم لهم الذي حرم الله عليه الجنة وأوجب له النار.
ويكفى في فضله وشرفه أنه يكف عن الله دعوة المظلوم كما في الآثار: أيها الملك المسلط المغرور، إنى لم أبعثك لتجمع الدنيا بعضها على بعض، ولكن بعثتك لتكف عنى دعوة المظلوم، إنى لم أبعثك لتجمع الدنيا بعضها على بعض، فإنى لا أحجبها ولو كانت من كافر. فأين من هو نائم وأعين العباد ساهرة تدعو الله له، وآخر أعينهم ساهرة تدعو عليه؟
الطبقة السادسة: المجاهدون في سبيل الله، وهم جند الله، الذين يقيم بهم دينه ويدفع بهم بأْس أعدائه ويحفظ بهم بيضة الإسلام ويحمى لهم حوزة الدين، وهم الذين يقاتلون أعداء الله ليكون الدين كله لله وتكون كلمة الله هي العليا، قد بذلوا أنفسهم في محبة الله ونصر دينه وإعلاءِ كلمته ودفع أعدائه، وهم شركاءُ لكل من يحمونه بسيوفهم في أعمالهم التي يعملونها وإن [باتوا] في ديارهم، ولهم مثل أُجور من عبد الله بسبب جهادهم وفتوحهم فإنهم كانوا هم السبب فيه.
والشارع قد نزل المتسبب منزلة الفاعل التام في الأجر والوزر، ولهذا كان الداعى إلى الهدى والداعى إلى الضلال لكل منهما بتسببه مثل أجر من تبعه.
وقد تظاهرت آيات الكتاب وتواترت نصوص السنة على الترغيب في الجهاد والحض عليه ومدح أهله والإخبار عما لهم عند ربهم من أنواع الكرامات والعطايا الجزيلات، ويكفى في ذلك قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكَمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الصف: 10]، فتشوقت النفوس إلى هذه التجارة الرابحة التي الدال عليها رب [العالمين العليم] الحكيم فقال: {تُؤْمِنُون بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ في سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفَسِكُمْ} [الصف: 11]، فكأن النفوس ضنت بحياتها وبقائها فقال: {ذَلِكُمْ خَيرٌ لَكُمْ إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} يعنى أن الجهاد خير لكم من قعودكم للحياة والسلامة، فكأنها قالت: فما لنا في الجهاد من الحظ؟ فقال: {يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبِكُمْ}، مع المغفرة: {يُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً في جَنَّاتِ عَدْنِ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [الصف: 12]، فكأنها قالت: هذا في الآخرة فما لنا في الدنيا؟ فقال: {وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [الصف: 13].
فلله ما أحلى هذه الألفاظ وما ألصقها بالقلوب وما أعظمها جذبًا لها وتسييرًا إلى ربها، وما ألطف موقعها من قلب كل محب، وما أعظم غنى القلب وأطيب عيشه حين تباشره معانيها، فنسأل الله من فضله إنه جواد كريم.
الطبقة السابعة: أهل الإيثار والصدقة والإحسان إلى الناس بأموالهم على اختلاف حاجاتهم ومصالحهم من تفريج كرباتهم ودفع ضروراتهم وكفايتهم في مهماتهم وهم أحد الصنفين اللذين قال النبي صلى الله عليه وسلم فيهم: «لا حسد إلا في اثنين: رجل آتاه الله الحكمة فهو يقضى بها ويعلمها الناس، ورجل آتاه الله مالًا وسلطه على هلكته في الحق»، يعنى أنه لا ينبغى لأحد أن يغبط أحدًا على نعمة ويتمنى مثلها، إلا أحد هذين، وذلك لما فيهما من منافع النفع العام والإحسان المتعدى إلى الخلق، فهذا ينفعهم بعلمه وهذا ينفعهم بماله، والخلق كلهم عيال الله وأحبهم إليه أنفعهم لعياله.
ولا ريب أن هذين الصنفين من أنفع الناس لعيال الله، ولا يقوم أمر الناس إلا بهذين الصنفين ولا يعمر العالم إلا بهما، قال تعالى: {الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ في سَبِيلِ الله ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ مَا أنفقوا مِنَّا وَلا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 262]
الطبقة الثامنة: طبقة من فتح الله له بابًا من أبواب الخير القاصر على نفسه كالصلاة والحج، والعمرة، وقراءة القرآن، والصوم والاعتكاف، والذكر ونحوها، مضافًا إلى أداءِ فرائض الله عليه فهو جاهد في تكثير حسناته، وإملاءِ صحيفته، وإذا عمل خطيئته تاب إلى الله منها. فهذا على خير عظيم، وله ثواب أمثاله من أعمال الآخرة. ولكن ليس له إلا علمه، فإذا مات طويت صحيفته [بموته] فهذه طبقة أهل الربح والحظوة أيضًا عند الله.
الطبقة التاسعة: طبقة أهل النجاة، وهى طبقة من يؤدى فرائض الله ويترك محارم الله، مقتصرًا عل ذلك لا يزيد عليه ولا ينقص منه. فلا يتعدى إلى ما حرم الله عليه، ولا يزيد على ما فرض عليه.
هذا من المفلحين بضمان رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن أخبره بشرائع الإسلام فقال: والله لا أزيد على هذا ولا أنقص منه؛ فقال صلى الله عليه وسلم: «أفلح إن صدق»، وأصحاب هذه الطبقة مضمون لهم على الله تكفير سيئاتهم، إذا أدوا فرائضه واجتنبوا كبائر ما نهاهم عنه.
قال تعالى: {إِن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تَنْهُونَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا} [النساء: 31].
الطبقة العاشرة: طبقة قوم أسرفوا على أنفسهم، وغشوا كبائر ما نهى الله عنه ولكن رزقهم الله التوبة النصوح قبل الموت، فماتوا على توبة صحيحة. فهؤلاءِ ناجون من عذاب الله إما قطعا عند قوم وإما ظنا ورجاء عند آخرين وهم موكولون إلى المشيئة، ولكن نصوص القرآن والسنة تدل على نجاتهم وقبول توبتهم، وهو وعد وعدهم الله إياه، والله لا يخلف الميعاد. فإن قيل: فما الفرق بين أهل هذه الطبقة والتى قبلها؟ فإن الله إذا كفر عنهم سيئاتهم، وأثبت لهم بكل سيئة حسنة كانوا كمن قبلهم أو أرجح؟ قيل: قد تقدم الكلام على هذه المسألة بما فيه كفاية، فعليك بمعاودته هناك. وكيف يستوى عند الله من أنفق عمره في طاعته ولم يغش كبيرة، ومن لم يدع كبيرة إلا ارتكبها وفرط في أوامره، ثم تاب؟ فهذا غايته أن تمحى سيئاته ويكون لا له ولا عليه. وأما أن يكون هو ومن قبله سواءً أو أرجح منه فكلا.
الطبقة الحادية عشرة: طبقة أقوام خلطوا عملًا صالحًا وآخر سيئًا: فعملوا حسنات وكبائر، ولقوا الله مصرّين عليها غير تائبين منها، لكن حسناتهم أغلب من سيئاتهم، فإذا وزنت بها رجحت كفة الحسنات، فهؤلاءِ أيضًا ناجون فائزون قال تعالى: {وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَق فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الذِينَ خَسِرُوا أنفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُون} [الأعراف: 8- 9].
قال حذيفة وعبد الله بن مسعود وغيرهما من الصحابة: يحشر الناس يوم القيامة ثلاثة أصناف: فمن رجحت حسناته على سيئاته بواحدة دخل الجنة، ومن رجحت سيئاته على حسناته بواحدة دخل النار، ومن استوت حسناته وسيئاته فهو من أهل الأعراف.
وهذه الموازنة تكون بعد القصاص، واستيفاءِ المظلومين حقوقهم من حسناته، فإذا بقى شيء منها وزن هو وسيئاته.
ولكن هنا مسألة، وهى: إذا وزنت السيئات بالحسنات فرجحت الحسنات، هل يلغى المرجوح جملة ويصير الأثر للراجح فيثاب على حسناته كلها، أو يسقط من الحسنات ما قابلها من السيئات المرجوحة ويبقى التأْثير للرجحان فيثاب عليه وحده؟ فيه قولان: هذا عند من يقول بالموازنة والحكمة، وأما من ينفى ذلك فلا عبرة عنده بهذا، وإنما هو موكول إلى محض المشيئة، وعلى القول الأول فيذهب أثر السيئات جملة بالحسنات الراجحة، وعلى القول الثانى يكون تأْثيرها في نقصان ثوابه لا في حصول العقاب له، ويترجح هذا القول الثانى بأن السيئات لو لم تحبط ما قبلها من الحسنات، وكان العمل والتأْثير للحسنات كلها لم يكن فرق بين وجودها وعدمها، ولكان لا فرق بين المحسن الذي محض عمله حسنات، وبين من خلط عملًا صالحًا وآخر سيئًا.